بسم الله الرحمن الرحيم
{لَيْلَةِ الْقَدْرِ} : سُمِّيَت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها .
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي : نحن أنزلنا هذا القرآن المعجز في ليلة القدر .
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}أي: هل تعلم ما عظم مقدار ليلة القدر؟
ذكر الله سبحانه فضلها من ثلاثة أوجه فقال تعالى :
1. {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي : ليلة القدر في الشَّرف والفضل خيرٌ من ألف شهر ، فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ، أي أكثر من ثلاث وثمانين سنة .
{الرُّوحُ} : جبريل عليه السلام .
2. {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} أي : تنزل الملائكةُ وجبريل إِلى الأرض في تلك الليلة بأمر ربهم ؛ من أجل كل أمرٍ قدَّره الله وقضاه، ففي ليلة القدر يُقَدَّر ما يكون في العام من الآجال والأرزاق.
3. {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي : هي سلامٌ من أول يومها إِلى طلوع الفجر ، سالمةٌ من كل آفةٍ وشرٍّ .
فهي ليلة فضلها عظيم، وخيرها عميم، وكيف لا وقد شهدت نزول القرآن الكريم، الذي يقود من اعتصم به إلى جنات الخلد والنعيم، كفى بقدر ليلة القدر أنها خير من ألف شهر..
ليلة مباركة، من حرم خيرها فقد حرم الخير كله، ولذلك يستحب للمسلم الحريص على طاعة الله أن يحييها إيماناً وطمعاً في أجرها العظيم، بالقيام والذكر، والقرآن والدعاء.
ومن فعل ذلك غفر له كل ما مضى من ذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه". [متفق عليه]
ويستحب فيها الدعاء والإكثار منه، وخاصة بما جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر؛ ماذا أقول؟، قال صلى الله عليه وسلم: "قولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني))" [أحمد وصححه الألباني]
وقد كان السلف يخصون ليلة القدر بمزيد اهتمام، فكان ثابت البناني يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب، ويطيب المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.
وكان لتميم الدارى رضي الله عنه حلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التى ترجى فيها ليلة القدر.
وكما كانوا يستعدون لها بالتزيين الظاهر؛ فإنهم علموا أنه لا يكمل تزيين الظاهر إلا بتزيين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئا.
فلا يصلح لمناجاة الملوك فى الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه، وطهرهما؛ خصوصا لملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس وباطنه بلباس التقوى.
روي عن مالك بن أنس أنه إذا كانت ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب، ولبس حلة وإزاراً ورداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلا مثلها من قابل.
فعلى المسلم إذاً أن يتحرى هذه الليلة، فهي فرصة عمره وحياته، ومعلوم من السنة أن معرفتها رفعت؛ لأن الناس تخاصموا: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين (أي: تخاصما)، فقال: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة". [البخارى]
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر".[مسلم]
وورد أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه التمسها في الوتر من العشر الأواخر، فقال صلى الله عليه وسلم: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في وتر؛ فإني قد رأيتها فأنسيتها" [ البخارى]
قال البغوى: "وبالجملة، أبهم الله هذه الليلة على الأمة؛ ليجتهدوا في العبادة ليالي العشر طمعا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة.. وأخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذراً من قيامها".
فخلاصة القول:
أن المسلم يتحرى ليلة القدر فى أوتار العشر الأواخر: ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فإن ضعف وعجز عن طلبها في الوتر الأواخر؛ فليطلبها في أوتار السبع البواقي: ليلة خمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، والله تعالى أعلم.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "كل زمان فاضل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله، وكذلك عشر ذي الحجة والمحرم آخرهما أفضل من أولهما".
ولقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأواسط من رمضان، قبل أن يعتكف العشر الأواخر التماساً لليلة القدر قبل أن يتبين له صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأواخر، ثم لما تبين له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله عز وجل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) [متفق عليه]
(وشد مئزره): أي اعتزل النساء، ويحتمل أن يراد به الجد في العبادة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشرة أيام من رمضان يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه، وتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر.
وسميت ليلة القدر؛ لأنها أنزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وعلى أمة ذات قدر.
أخي..
يهون العمر كله إلا هذه الليلة
الليلة التي نزل فيها القرآن جملة إلى السماء الدنيا..
الليلة التي تقدر فيها أحكام تلك السنة، وتكتب فيها الملائكة الأقدار..
الليلة التي تتنزل فيها الملائكة..
لقد كان رسولكم صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها, ويعتكف التماسا لتلك الليلة , وكان يواصل ابتغاءً لتلك الليلة..
فيا من ضاع عمره في لا شيء, استدرك ما فاتك في ليلة القدر, فإنها تحسب بالعمر.
ليلة القدر.. يقبل الله فيها التوبة من كل تائب
ليلة القدر.. يكتب فيها من أم الكتاب ما يكون في سنتها من موت وحياة ورزق ومطر.
وعن مجاهد: صيامها وقيامها أفضل من: صيام ألف شهر وقيامه -ليس فيها ليلة القدر- .
وعن كعب الأحبار: نجد هذه الليلة في الكتب حطوطاً تحط الذنوب.
وهي ليلة مباركة تشرف فيها الأرض بالملائكة
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليلة القدر ليلة السابعة, أو التاسعة والعشرين, وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى". [أحمد وحسنه الألباني]
ومن علامات ليلة القدر أنها تكون ليلة لا باردة ولا حارة, وتشرق الشمس يومها بلا شعاع؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة القدر ليلة سمحة , طلقة , لا حارة ولا باردة , تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء" [الطبراني وحسنه الألباني] , وقال صلى الله عليه وسلم: "تطلع الشمس صبيحة تلك الليلة ليس لها شعاع , مثل الطست حتى ترتفع" [أبوداود وصححه الألباني]
ولها علامات أخرى تظهر أكثرها بعد انقضاء الليلة.
ومن حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "في ليلة القدر لا يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح , وأن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر , لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" [أحمد وحسنه شعيب الأرناؤوط]
وروي عن ابن عباس أن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر؛ وذلك أنها تطلع لا شعاع لها .
وقال مجاهد في قوله تعالى : {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} : "سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها شيئا"، وعن الضحاك عن ابن عباس قال: "في تلك الليلة تصفد مردة الجن، وتغل عفاريت الجن، وتفتح فيها أبواب السماء كلها، ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب".
ابن آدم !
لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، أنت المختار من المخلوقات، ولك أعدت الجنة إن اتقيت؛ فهي أقطاع المتقين والدنيا أقطاع إبليس، فهو فيها من المنظرين، فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن أقطاعك ومزاحمة إبليس على أقطاعه، وأن تكون غداً معه في النار من جملة أتباعه، إنما طردناه عن السماء لأجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك، وطلبنا قربك لتكون من خاصتنا وحزبنا، فعاديتنا وواليت عدونا..
وتحزن النساء لفوات قيام ليلة القدر بسبب حيض أو نفاس، ولكن عليهن بإحسان العمل طوال الشهر لكي يتقبله الله منهن، قال جويبر: قلت للضحاك: "أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب؟"، قال: "نعم، كل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر"، ومعنى هذا أن الذي أحسن العمل في شهر رمضان يتقبل الله منه، والذي يتقبل الله منه لم يحرمه نصيبه من ليلة القدر.
إخوتاه..
ليلة القدر.. ليلة يفتح فيها الباب،ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب، ويرد الجواب، ويعطى للعاملين عظيم الثواب.
ليلة.. ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمة عليكم غداً بأعمالكم، فيا ليت شعري ماذا أودعوتموها؟ وبأي الأعمال ودعتموها؟ أتراها ترحل حامدة لصنيعكم.. أو ذامة تضييعكم؟
ليلة القدر.. عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد، ففيها تنزل الأملاك بالأنوار والبر.
إخوتاه..
استعدوا للعشر الأواخر بالاحتراس من الغفلات القواتل، وتيقظوا فيها قبل لحاق الأواخر بالأوائل، واعتذروا فيها فإنها قلائل، قبل أن يرد اعتذار العاصي بتكذيبه، عظموها فإنها عظيمة الأمر، وانتظروا وارتقبوا فيها بحسن اليقظة ليلة القدر؛ فإنها غريبة غريبة، وعجيبة عجيبة.
إخوتاه..
إنها فرصتكم الأخيرة للنجاة ..
فتأهبوا للعشر بالعزم الصادق على الخير، واجعلوا هممكم مصروفة إلى حراستها لا غير؛ فإنها عشر بالبركات الوافرة قد حُفت، وبالكرامة الظاهرة قد زُفت، فأعدوا لقدومها عُدة، واسألوا الله فيها التوفيق إلى أن تكملوا العدة، والحذر الحذر من التفريط والإهمال، والتكاسل فيها عن صالح الأعمال.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]
اللهم اجعلنا ممن قامها إيمانا واحتسابا
واجعلنا من عتقائها
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين
{لَيْلَةِ الْقَدْرِ} : سُمِّيَت ليلة القدر لعظم قدرها وشرفها .
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} أي : نحن أنزلنا هذا القرآن المعجز في ليلة القدر .
{وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ}أي: هل تعلم ما عظم مقدار ليلة القدر؟
ذكر الله سبحانه فضلها من ثلاثة أوجه فقال تعالى :
1. {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} أي : ليلة القدر في الشَّرف والفضل خيرٌ من ألف شهر ، فالعمل الصالح فيها خير منه في ألف شهر ، أي أكثر من ثلاث وثمانين سنة .
{الرُّوحُ} : جبريل عليه السلام .
2. {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} أي : تنزل الملائكةُ وجبريل إِلى الأرض في تلك الليلة بأمر ربهم ؛ من أجل كل أمرٍ قدَّره الله وقضاه، ففي ليلة القدر يُقَدَّر ما يكون في العام من الآجال والأرزاق.
3. {سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} أي : هي سلامٌ من أول يومها إِلى طلوع الفجر ، سالمةٌ من كل آفةٍ وشرٍّ .
فهي ليلة فضلها عظيم، وخيرها عميم، وكيف لا وقد شهدت نزول القرآن الكريم، الذي يقود من اعتصم به إلى جنات الخلد والنعيم، كفى بقدر ليلة القدر أنها خير من ألف شهر..
ليلة مباركة، من حرم خيرها فقد حرم الخير كله، ولذلك يستحب للمسلم الحريص على طاعة الله أن يحييها إيماناً وطمعاً في أجرها العظيم، بالقيام والذكر، والقرآن والدعاء.
ومن فعل ذلك غفر له كل ما مضى من ذنوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً؛ غفر له ما تقدم من ذنبه". [متفق عليه]
ويستحب فيها الدعاء والإكثار منه، وخاصة بما جاء عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله، أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر؛ ماذا أقول؟، قال صلى الله عليه وسلم: "قولي: ((اللهم إنك عفو تحب العفو، فاعف عني))" [أحمد وصححه الألباني]
وقد كان السلف يخصون ليلة القدر بمزيد اهتمام، فكان ثابت البناني يلبس أحسن ثيابه، ويتطيب، ويطيب المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر.
وكان لتميم الدارى رضي الله عنه حلة اشتراها بألف درهم، وكان يلبسها في الليلة التى ترجى فيها ليلة القدر.
وكما كانوا يستعدون لها بالتزيين الظاهر؛ فإنهم علموا أنه لا يكمل تزيين الظاهر إلا بتزيين الباطن بالتوبة والإنابة إلى الله تعالى، وتطهيره من أدناس الذنوب وأوضارها؛ فإن زينة الظاهر مع خراب الباطن لا تغني شيئا.
فلا يصلح لمناجاة الملوك فى الخلوات إلا من زين ظاهره وباطنه، وطهرهما؛ خصوصا لملك الملوك الذي يعلم السر وأخفى، فمن وقف بين يديه فليزين له ظاهره باللباس وباطنه بلباس التقوى.
روي عن مالك بن أنس أنه إذا كانت ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب، ولبس حلة وإزاراً ورداء، فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلا مثلها من قابل.
فعلى المسلم إذاً أن يتحرى هذه الليلة، فهي فرصة عمره وحياته، ومعلوم من السنة أن معرفتها رفعت؛ لأن الناس تخاصموا: عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين (أي: تخاصما)، فقال: "إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم، فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة". [البخارى]
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أريت ليلة القدر، ثم أيقظني بعض أهلي فنسيتها، فالتمسوها في العشر الغوابر".[مسلم]
وورد أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه التمسها في الوتر من العشر الأواخر، فقال صلى الله عليه وسلم: "التمسوا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان في وتر؛ فإني قد رأيتها فأنسيتها" [ البخارى]
قال البغوى: "وبالجملة، أبهم الله هذه الليلة على الأمة؛ ليجتهدوا في العبادة ليالي العشر طمعا في إدراكها، كما أخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة.. وأخفى رضاه في الطاعات ليرغبوا في جميعها، وسخطه في المعاصي لينتهوا عن جميعها، وأخفى قيام الساعة ليجتهدوا في الطاعات حذراً من قيامها".
فخلاصة القول:
أن المسلم يتحرى ليلة القدر فى أوتار العشر الأواخر: ليلة إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين، وخمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، فإن ضعف وعجز عن طلبها في الوتر الأواخر؛ فليطلبها في أوتار السبع البواقي: ليلة خمس وعشرين، وسبع وعشرين، وتسع وعشرين، والله تعالى أعلم.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: "كل زمان فاضل من ليل أو نهار فإن آخره أفضل من أوله، وكذلك عشر ذي الحجة والمحرم آخرهما أفضل من أولهما".
ولقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف في العشر الأواسط من رمضان، قبل أن يعتكف العشر الأواخر التماساً لليلة القدر قبل أن يتبين له صلى الله عليه وسلم أنها في العشر الأواخر، ثم لما تبين له ذلك اعتكف العشر الأواخر حتى قبضه الله عز وجل.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله) [متفق عليه]
(وشد مئزره): أي اعتزل النساء، ويحتمل أن يراد به الجد في العبادة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشرة أيام من رمضان يدع أحداً من أهله يطيق القيام إلا أقامه، وتأكد إيقاظهم في آكد الأوتار التي ترجى فيها ليلة القدر.
وسميت ليلة القدر؛ لأنها أنزل فيها كتاب ذو قدر، على لسان ملك ذي قدر، على رسول ذي قدر، وعلى أمة ذات قدر.
أخي..
يهون العمر كله إلا هذه الليلة
الليلة التي نزل فيها القرآن جملة إلى السماء الدنيا..
الليلة التي تقدر فيها أحكام تلك السنة، وتكتب فيها الملائكة الأقدار..
الليلة التي تتنزل فيها الملائكة..
لقد كان رسولكم صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها, ويعتكف التماسا لتلك الليلة , وكان يواصل ابتغاءً لتلك الليلة..
فيا من ضاع عمره في لا شيء, استدرك ما فاتك في ليلة القدر, فإنها تحسب بالعمر.
ليلة القدر.. يقبل الله فيها التوبة من كل تائب
ليلة القدر.. يكتب فيها من أم الكتاب ما يكون في سنتها من موت وحياة ورزق ومطر.
وعن مجاهد: صيامها وقيامها أفضل من: صيام ألف شهر وقيامه -ليس فيها ليلة القدر- .
وعن كعب الأحبار: نجد هذه الليلة في الكتب حطوطاً تحط الذنوب.
وهي ليلة مباركة تشرف فيها الأرض بالملائكة
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليلة القدر ليلة السابعة, أو التاسعة والعشرين, وإن الملائكة تلك الليلة أكثر في الأرض من عدد الحصى". [أحمد وحسنه الألباني]
ومن علامات ليلة القدر أنها تكون ليلة لا باردة ولا حارة, وتشرق الشمس يومها بلا شعاع؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة القدر ليلة سمحة , طلقة , لا حارة ولا باردة , تصبح الشمس صبيحتها ضعيفة حمراء" [الطبراني وحسنه الألباني] , وقال صلى الله عليه وسلم: "تطلع الشمس صبيحة تلك الليلة ليس لها شعاع , مثل الطست حتى ترتفع" [أبوداود وصححه الألباني]
ولها علامات أخرى تظهر أكثرها بعد انقضاء الليلة.
ومن حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "في ليلة القدر لا يحل لكوكب أن يرمى به حتى يصبح , وأن أمارتها أن الشمس تخرج صبيحتها مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر , لا يحل للشيطان أن يخرج معها يومئذ" [أحمد وحسنه شعيب الأرناؤوط]
وروي عن ابن عباس أن الشيطان يطلع مع الشمس كل يوم إلا ليلة القدر؛ وذلك أنها تطلع لا شعاع لها .
وقال مجاهد في قوله تعالى : {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} : "سلام أن يحدث فيها داء أو يستطيع شيطان أن يعمل فيها شيئا"، وعن الضحاك عن ابن عباس قال: "في تلك الليلة تصفد مردة الجن، وتغل عفاريت الجن، وتفتح فيها أبواب السماء كلها، ويقبل الله فيها التوبة لكل تائب".
ابن آدم !
لو عرفت قدر نفسك ما أهنتها بالمعاصي، أنت المختار من المخلوقات، ولك أعدت الجنة إن اتقيت؛ فهي أقطاع المتقين والدنيا أقطاع إبليس، فهو فيها من المنظرين، فكيف رضيت لنفسك بالإعراض عن أقطاعك ومزاحمة إبليس على أقطاعه، وأن تكون غداً معه في النار من جملة أتباعه، إنما طردناه عن السماء لأجلك حيث تكبر عن السجود لأبيك، وطلبنا قربك لتكون من خاصتنا وحزبنا، فعاديتنا وواليت عدونا..
وتحزن النساء لفوات قيام ليلة القدر بسبب حيض أو نفاس، ولكن عليهن بإحسان العمل طوال الشهر لكي يتقبله الله منهن، قال جويبر: قلت للضحاك: "أرأيت النفساء والحائض والمسافر والنائم لهم في ليلة القدر نصيب؟"، قال: "نعم، كل من تقبل الله عمله سيعطيه نصيبه من ليلة القدر"، ومعنى هذا أن الذي أحسن العمل في شهر رمضان يتقبل الله منه، والذي يتقبل الله منه لم يحرمه نصيبه من ليلة القدر.
إخوتاه..
ليلة القدر.. ليلة يفتح فيها الباب،ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب، ويرد الجواب، ويعطى للعاملين عظيم الثواب.
ليلة.. ذاهبة عنكم بأفعالكم، وقادمة عليكم غداً بأعمالكم، فيا ليت شعري ماذا أودعوتموها؟ وبأي الأعمال ودعتموها؟ أتراها ترحل حامدة لصنيعكم.. أو ذامة تضييعكم؟
ليلة القدر.. عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه، وإنما يفرون من ليالي البعد، ففيها تنزل الأملاك بالأنوار والبر.
إخوتاه..
استعدوا للعشر الأواخر بالاحتراس من الغفلات القواتل، وتيقظوا فيها قبل لحاق الأواخر بالأوائل، واعتذروا فيها فإنها قلائل، قبل أن يرد اعتذار العاصي بتكذيبه، عظموها فإنها عظيمة الأمر، وانتظروا وارتقبوا فيها بحسن اليقظة ليلة القدر؛ فإنها غريبة غريبة، وعجيبة عجيبة.
إخوتاه..
إنها فرصتكم الأخيرة للنجاة ..
فتأهبوا للعشر بالعزم الصادق على الخير، واجعلوا هممكم مصروفة إلى حراستها لا غير؛ فإنها عشر بالبركات الوافرة قد حُفت، وبالكرامة الظاهرة قد زُفت، فأعدوا لقدومها عُدة، واسألوا الله فيها التوفيق إلى أن تكملوا العدة، والحذر الحذر من التفريط والإهمال، والتكاسل فيها عن صالح الأعمال.
قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19]
اللهم اجعلنا ممن قامها إيمانا واحتسابا
واجعلنا من عتقائها
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
والحمد لله رب العالمين